بسم الله الرحمن الرحيم ((
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنَ الزِّنَا مُدْرِكٌ ذَلِكَ
لَا مَحَالَةَ فَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ وَالْأُذُنَانِ
زِنَاهُمَا الِاسْتِمَاعُ وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلَامُ وَالْيَدُ
زِنَاهَا الْبَطْشُ وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَا وَالْقَلْبُ يَهْوَى
وَيَتَمَنَّى وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ وَيُكَذِّبُهُ ))
(رواه مسلم )
ربما أشْكَلَ هذا الحديث على بعض الناس إذ
كيف أنَّ الله سبحانه وتعالى يكتب على الإنسان الزنا ثمّ يُحاسِبُهُ عليه !
لا بدّ من توضيح المعاني الدقيقة لهذا الحديث الشريف.
أوَّلاً: كلمة كَتَبَ، وكُتِبَ، ومشتقاتها تعني بالنسبة إلى الله عز جل
أنَّهُ يُؤكِّدُ لنا، لأنَّ الله سبحانه وتعالى ليس عنده كتابة، ولكنَّنا
نحن إن كان معنا شيئًا مكتوبًا نشْعر بِطُمأنينة، قال تعالى:
﴿ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ
مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ
وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(54)﴾
(سورة الأنعام )
وقال تعالى:
﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ(21)﴾
(سورة المجادلة )
فالكتابة لا تعني الكتابة التي نـألفُها، فكلّ
ما خطر بِبالك فهو خلاف ذلك أما الكتابة تعني التأكيد، فالنبي عليه الصلاة
والسلام قال:
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنَ
الزِّنَا مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ فَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا
النَّظَرُ وَالْأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الِاسْتِمَاعُ وَاللِّسَانُ زِنَاهُ
الْكَلَامُ وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَا
وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ
وَيُكَذِّبُهُ ))
فالكتابة على الزنا أم على نصيبه من الزِّنا ؟
هنا السؤال ! إن كانت الكتابة أن يزني فالحديث له إشكال، أما إذا كانت
الكتابة لا بدّ من أن ينال نصيبه من عقاب الزنا، فالموضوع له ترتيب آخر أنت
حينما تركب مركبتَك، والإشارة حمراء، أنت مُخيَّر أن تقف أو تُخالف، أما
إن خالفْت فلسْتَ مُخيَّرًا، فقَدْتَ حُرِيَّة اختيارك، ولا بدّ مِن أن
تُخالف، وأن تُحْجز المركبة، فالإنسان مُخيَّر ؛ يزني أو لا يزني لأنَّه
لما قال أحد الأشخاص لسيِّدنا عمر: إنَّ الله قدَّر عليّ ذلك، قال عمر:
أقيموا عليه الحدّ مرَّتَين ؛ مرَّة لأنَّه شرب الخمر، ومرَّة لأنَّه افترى
على الله، قال له: وَيْحَكَ يا هذا، إنَّ الله لن يُخرِجْك من الاختيار
إلى الاضطرار، قال تعالى:﴿ قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ(28)﴾
(سورة الأعراف )
أما الإنسان حينما يختار الزنى فإنَّه كُتِب
عليه أن ينال نصيبه من عقوبة الزِّنى، إما زنى العين، أو زنى اللِّسان، أو
زنى الأذن أو زنى الفرج، عندها يكتب نصيبه من الزنى مدرك ذلك لا محالة.
الإنسان مخيّر، فإذا اختار المعْصِيَة فقَدَ اختياره فالإنسان مُسيَّر في
أبيه وأمِّه وبيئته وعصره وزمانه وقدراته، إلا أنّ هذا التسيير لِصالح
الإنسان، ثمّ إنّ الإنسان مخيَّر، فالله كلَّفه، يعبدُهُ أو لا يعبدُهُ،
ويُصلِّي أو لا يُصَلِّي، ويُزَكِّي أو لا يُزَكِّي، يغضّ بصره أو يطلقه،
أما أن تكون ابن فلان وابن فلانة في المكان الفلاني والزمان الفلاني،
وبالشكل الفلاني، وبالإمكانات الفلانيّة، فهذا أنت مُسيَّر فيه وهو
لِصَالِحك، وليس بالإمكان أبدع مما كان، أو ليس في إمكاني أبدعُ ممَّا
أعطاني، فأنت مُسيَّر في بيئتك ووالدَتك وعصرك وقدراتك، ثمّ أنت مُخيَّر
فيما كُلِّفْت به، أمرَكَ الله أن تصْدق، وأن تكون أمينًا، وأمركَ أن
تُصَلِّي وتصوم، وأن تحجّ بيتَ الله الحرام، وأمركَ ان تُزكِّي، وتضبط
جوارحك فأنت مُخيَّر، فإذا اختار الإنسان المعصِيَة، حينها يصبح مسيَّرًا
لِدَفْع ثمنها أوْضَح مثل ؛ مواطن شريف لا يخالف القانون تجدهُ طليقًا
يذهب حيثما كان وهو حرّ، ويُغادر القطر، يؤسِّس عملاً تِجاريًّا أو لا
يؤسِّس، يشتري مكتبًا أو لا يشتري، أما حينما يرتكب جريمةً هل يبقى حُرًّا ؟
يفقِدُ اختيارهُ، أنت مُخيَّر أن تزني أو لا تزني أما حينما تزني كُتِبَ
عليك نصيبك من عقوبة الزنى مُدركٌ ذلك لا محالة، ولا يفهمن أحد، أنَّ الله
عز وجل كتبَ على هذا الإنسان أن يزْني شاء أم أبى:
ألقاهُ في اليمّ مَكتوفًا وقال له إيَّاك إيَّاك أن تبْتلّ بالماء
قال تعالى
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا
عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا
حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ(35)﴾
(سورة النحل )
تخرصون هذا من أشدّ أنواع الكذب، فالذي يقول
هذا الكلام ؛ هذا إنسان يكذب على الله، والذي يقول: لا تعترض فتنْطرِد !!
هذا كلام لا معنى له لأنّ الله تعالى بيَّن، قال تعالى:
﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا(3)﴾
(سورة الإنسان )
وقال تعالى:
﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(2)﴾
( سورة التغابن )
وقال تعالى:
﴿ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى(13)﴾
(سورة الكهف)
وقال تعالى:
﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا
الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ
اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(148)﴾
(سورة البقرة )
إيَّاك أن تفهم من هذا الحديث أنَّ الله تعالى
يأمر بالفحشاء، أو أنَّ الله كتبَ عليك الزِّنى، الكتابة لا على فِعل
الزِّنى ولكن على إدراك النَّصيب من عُقوبة الزِّنى، فلا بدّ من أن ينال
الإنسان نصيبَهُ من عقوبة الزِّنى، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله:
منْ يزني يُزْنى بِه ولو بِجِدارِهِ إن كنتَ يا هذا لبيبًا فافْهَم !
قال تعالى:
﴿ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(129)﴾
(سورة الأنعام )
بشِّر الزاني بالفقر ولو بعد حين وللزنى درجات،
فإطلاق البصر أحد درجات الزنى، فالعين تزني وزناها البصر وأن تُدير حديثًا
ناعمًا ولطيفًا مع امرأة لا تَحِلُّ لك ؛ هذا أحد أنواع الزنى وأن تستمِعَ
إلى ما يُثير شَهوة الجِنس ؛ غناءً أو تكسُّرًا أو ما شـاكل ذلك هو نوع من
أنواع الزنى، وأن تُصافِحَ امرأةً بِحَرارة هو نوع من الزنى، فالكلّ زنى
ولكن بِدَرجات، وقد يزني الإنسان الزنى الفاحش المعروف، فالإنسان إن أطْلق
بصرهُ سيَدْفعُ الثَّمَن في بيتِه ؛ خُصومة وعِناد ومشكلة لأنَّ الله عز
وجل الذين بني بيتهما على طاعة الله يتولَّى التوفيق بين الزَّوجين فإذا
زاغَتْ عَيْن الرجُل دَفَعَ الثَّمن في بيتِه، ألم يقل الإمام الشعراني:
أعرف مقامي عند ربِّي من أخلاق زوجتي ! فإن غضَضْت البصر عما لا يحلّ لك
أوْرثك الله حلاوةً في قلبك وفي بيتك إلى يوم تلقاه، لذلك يقول عليه الصلاة
والسلام:
(( فيما رواه جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ
قَدْ يَئِسَ الشَّيْطَانُ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُسْلِمُونَ وَلَكِنْ فِي
التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ ))
(رواه أحمد )
أن تُعْبَدَ الأصنام في العالم الإسلاميّ ؛
شيءٌ مستحيل، والدليل هذا الحديث فالكل يقول: لم نعمل شيئاً !! فعلى مستوى
النَّظر يكون هناك شِقاق زَوجي، وعلى مستوى اللَّمس يكون هناك لمْس، فكما
لمَسْت تُلْمَس، وكما نظرتَ ينظَر إليها، وكما أدَرْتَ حديثًا مُمْتِعًا مع
امرأة لا تحلّ لك، هناك مَن يُدير حديثًا مُمْتعًا مع زوْجتك ! شيءٌ دقيق
جدًّا، فقول النبي عليه الصلاة والسلام: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
(( كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنَ الزِّنَا
مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ فَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ
وَالْأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الِاسْتِمَاعُ وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلَامُ
وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَا وَالْقَلْبُ
يَهْوَى وَيَتَمَنَّى وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ وَيُكَذِّبُهُ ))
(رواه مسلم)
كتب عليه أن ينال نصيبه من عقوبة الزنى في كلّ درجاته.
الله عز وجل لم يقل: لا تزنوا، ولكن قال: ولا يزنون ! فالتركيب الخبري أبلغ من التركيب الإنشائي، فالله تعالى قال:
﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾
(سورة البقرة )
لـو أنَّ الله عز وجل قال: يـا أيتها
الوالـدات أرضِعن أولادكنّ حولين كاملين ! ترضِع أو لاترضِع، أما الأولى
فتعني أنَّه من شأن الأم أن ترضع ابنها وهذه أبْلغ، لـو أنّ الله عز وجل
قال: لا تزنوا ! لكن الله تعالى قال: ولا يزنون، فَمِن صفات المؤمنين
أنَّهم لا يزنون، فالتركيب الخبري يأتي في القرآن أحيانًا في مجال التركيب
الإنشائي كما قال الله عز وجل:
﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾
(سورة آل عمران )
هذا تركيب خبري يُفيد أنَّه ينبغي أن يكون الحرمُ آمنًا، أي اجعلوه آمنًا والله تعالى قال:
﴿ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ﴾
(سورة النور )
ألا يوجد زوج سيئ لِزوجة جيِّدة والعكس، فأين
الآية ؟! فهذه الآية لْيسَت حكمًا بل تكليف ؛ أي احْرصوا على تزويج
الطِّيبين من الطَّيِّبات، لذا قال الله عز وجل: ولا يزنون، هذه أبلغ ألف
مرَّة من أن ينهانا الله عز وجل عن الزنى، لأنّه ليس من شأن المؤمن أن يزني
لا بِعَينيه ولا بأُذنه ولا بلسانه، ولا بِفَرجِهِ، والإنسان قبل أن يرتكب
الكبائر هو بِخَيرٍ شديد، قال تعالى:﴿ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا(31)﴾
(سورة النساء )
والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما، ورمضان
إلى رمضان كفارة لما بينهما ما لم تُرْتَكب الكبائر، فالحديث في درسنا ليس
فيه إلْزامٌ بالزنى ولكن إلْزام بِتَحَمُّل عُقوبة الزِّنى.
أحدهم قال للنبي عليه الصلاة والسلام: عِظني ولا تُطِل..." إذا اختَرت أن
تفعل المعاصي حينها اسْتَعِدّ للبلاء، وأنا أقول لكم هذه الحقيقة: إما أن
تنطلق إلى الله تعالى طائِعًا، وإما أنَّ الله سبحانه وتعالى بِحِكمةٍ
بالغة يحْملك على أن تنطلق !، فانطَلِق طواعِيَةً أكمل وأشْرف من أن تُساق
بالسِّياط، وعجب ربكم إلى قوم يُساقون بالسلاسل، والعقوبات أحيانًا وسائل
من وسائل التَّربيَة.
والحمد لله رب العالمين
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنَ الزِّنَا مُدْرِكٌ ذَلِكَ
لَا مَحَالَةَ فَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ وَالْأُذُنَانِ
زِنَاهُمَا الِاسْتِمَاعُ وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلَامُ وَالْيَدُ
زِنَاهَا الْبَطْشُ وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَا وَالْقَلْبُ يَهْوَى
وَيَتَمَنَّى وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ وَيُكَذِّبُهُ ))
(رواه مسلم )
ربما أشْكَلَ هذا الحديث على بعض الناس إذ
كيف أنَّ الله سبحانه وتعالى يكتب على الإنسان الزنا ثمّ يُحاسِبُهُ عليه !
لا بدّ من توضيح المعاني الدقيقة لهذا الحديث الشريف.
أوَّلاً: كلمة كَتَبَ، وكُتِبَ، ومشتقاتها تعني بالنسبة إلى الله عز جل
أنَّهُ يُؤكِّدُ لنا، لأنَّ الله سبحانه وتعالى ليس عنده كتابة، ولكنَّنا
نحن إن كان معنا شيئًا مكتوبًا نشْعر بِطُمأنينة، قال تعالى:
﴿ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ
مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ
وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(54)﴾
(سورة الأنعام )
وقال تعالى:
﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ(21)﴾
(سورة المجادلة )
فالكتابة لا تعني الكتابة التي نـألفُها، فكلّ
ما خطر بِبالك فهو خلاف ذلك أما الكتابة تعني التأكيد، فالنبي عليه الصلاة
والسلام قال:
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنَ
الزِّنَا مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ فَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا
النَّظَرُ وَالْأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الِاسْتِمَاعُ وَاللِّسَانُ زِنَاهُ
الْكَلَامُ وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَا
وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ
وَيُكَذِّبُهُ ))
فالكتابة على الزنا أم على نصيبه من الزِّنا ؟
هنا السؤال ! إن كانت الكتابة أن يزني فالحديث له إشكال، أما إذا كانت
الكتابة لا بدّ من أن ينال نصيبه من عقاب الزنا، فالموضوع له ترتيب آخر أنت
حينما تركب مركبتَك، والإشارة حمراء، أنت مُخيَّر أن تقف أو تُخالف، أما
إن خالفْت فلسْتَ مُخيَّرًا، فقَدْتَ حُرِيَّة اختيارك، ولا بدّ مِن أن
تُخالف، وأن تُحْجز المركبة، فالإنسان مُخيَّر ؛ يزني أو لا يزني لأنَّه
لما قال أحد الأشخاص لسيِّدنا عمر: إنَّ الله قدَّر عليّ ذلك، قال عمر:
أقيموا عليه الحدّ مرَّتَين ؛ مرَّة لأنَّه شرب الخمر، ومرَّة لأنَّه افترى
على الله، قال له: وَيْحَكَ يا هذا، إنَّ الله لن يُخرِجْك من الاختيار
إلى الاضطرار، قال تعالى:﴿ قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ(28)﴾
(سورة الأعراف )
أما الإنسان حينما يختار الزنى فإنَّه كُتِب
عليه أن ينال نصيبه من عقوبة الزِّنى، إما زنى العين، أو زنى اللِّسان، أو
زنى الأذن أو زنى الفرج، عندها يكتب نصيبه من الزنى مدرك ذلك لا محالة.
الإنسان مخيّر، فإذا اختار المعْصِيَة فقَدَ اختياره فالإنسان مُسيَّر في
أبيه وأمِّه وبيئته وعصره وزمانه وقدراته، إلا أنّ هذا التسيير لِصالح
الإنسان، ثمّ إنّ الإنسان مخيَّر، فالله كلَّفه، يعبدُهُ أو لا يعبدُهُ،
ويُصلِّي أو لا يُصَلِّي، ويُزَكِّي أو لا يُزَكِّي، يغضّ بصره أو يطلقه،
أما أن تكون ابن فلان وابن فلانة في المكان الفلاني والزمان الفلاني،
وبالشكل الفلاني، وبالإمكانات الفلانيّة، فهذا أنت مُسيَّر فيه وهو
لِصَالِحك، وليس بالإمكان أبدع مما كان، أو ليس في إمكاني أبدعُ ممَّا
أعطاني، فأنت مُسيَّر في بيئتك ووالدَتك وعصرك وقدراتك، ثمّ أنت مُخيَّر
فيما كُلِّفْت به، أمرَكَ الله أن تصْدق، وأن تكون أمينًا، وأمركَ أن
تُصَلِّي وتصوم، وأن تحجّ بيتَ الله الحرام، وأمركَ ان تُزكِّي، وتضبط
جوارحك فأنت مُخيَّر، فإذا اختار الإنسان المعصِيَة، حينها يصبح مسيَّرًا
لِدَفْع ثمنها أوْضَح مثل ؛ مواطن شريف لا يخالف القانون تجدهُ طليقًا
يذهب حيثما كان وهو حرّ، ويُغادر القطر، يؤسِّس عملاً تِجاريًّا أو لا
يؤسِّس، يشتري مكتبًا أو لا يشتري، أما حينما يرتكب جريمةً هل يبقى حُرًّا ؟
يفقِدُ اختيارهُ، أنت مُخيَّر أن تزني أو لا تزني أما حينما تزني كُتِبَ
عليك نصيبك من عقوبة الزنى مُدركٌ ذلك لا محالة، ولا يفهمن أحد، أنَّ الله
عز وجل كتبَ على هذا الإنسان أن يزْني شاء أم أبى:
ألقاهُ في اليمّ مَكتوفًا وقال له إيَّاك إيَّاك أن تبْتلّ بالماء
قال تعالى
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا
عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا
حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ(35)﴾
(سورة النحل )
تخرصون هذا من أشدّ أنواع الكذب، فالذي يقول
هذا الكلام ؛ هذا إنسان يكذب على الله، والذي يقول: لا تعترض فتنْطرِد !!
هذا كلام لا معنى له لأنّ الله تعالى بيَّن، قال تعالى:
﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا(3)﴾
(سورة الإنسان )
وقال تعالى:
﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(2)﴾
( سورة التغابن )
وقال تعالى:
﴿ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى(13)﴾
(سورة الكهف)
وقال تعالى:
﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا
الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ
اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(148)﴾
(سورة البقرة )
إيَّاك أن تفهم من هذا الحديث أنَّ الله تعالى
يأمر بالفحشاء، أو أنَّ الله كتبَ عليك الزِّنى، الكتابة لا على فِعل
الزِّنى ولكن على إدراك النَّصيب من عُقوبة الزِّنى، فلا بدّ من أن ينال
الإنسان نصيبَهُ من عقوبة الزِّنى، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله:
منْ يزني يُزْنى بِه ولو بِجِدارِهِ إن كنتَ يا هذا لبيبًا فافْهَم !
قال تعالى:
﴿ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(129)﴾
(سورة الأنعام )
بشِّر الزاني بالفقر ولو بعد حين وللزنى درجات،
فإطلاق البصر أحد درجات الزنى، فالعين تزني وزناها البصر وأن تُدير حديثًا
ناعمًا ولطيفًا مع امرأة لا تَحِلُّ لك ؛ هذا أحد أنواع الزنى وأن تستمِعَ
إلى ما يُثير شَهوة الجِنس ؛ غناءً أو تكسُّرًا أو ما شـاكل ذلك هو نوع من
أنواع الزنى، وأن تُصافِحَ امرأةً بِحَرارة هو نوع من الزنى، فالكلّ زنى
ولكن بِدَرجات، وقد يزني الإنسان الزنى الفاحش المعروف، فالإنسان إن أطْلق
بصرهُ سيَدْفعُ الثَّمَن في بيتِه ؛ خُصومة وعِناد ومشكلة لأنَّ الله عز
وجل الذين بني بيتهما على طاعة الله يتولَّى التوفيق بين الزَّوجين فإذا
زاغَتْ عَيْن الرجُل دَفَعَ الثَّمن في بيتِه، ألم يقل الإمام الشعراني:
أعرف مقامي عند ربِّي من أخلاق زوجتي ! فإن غضَضْت البصر عما لا يحلّ لك
أوْرثك الله حلاوةً في قلبك وفي بيتك إلى يوم تلقاه، لذلك يقول عليه الصلاة
والسلام:
(( فيما رواه جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ
قَدْ يَئِسَ الشَّيْطَانُ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُسْلِمُونَ وَلَكِنْ فِي
التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ ))
(رواه أحمد )
أن تُعْبَدَ الأصنام في العالم الإسلاميّ ؛
شيءٌ مستحيل، والدليل هذا الحديث فالكل يقول: لم نعمل شيئاً !! فعلى مستوى
النَّظر يكون هناك شِقاق زَوجي، وعلى مستوى اللَّمس يكون هناك لمْس، فكما
لمَسْت تُلْمَس، وكما نظرتَ ينظَر إليها، وكما أدَرْتَ حديثًا مُمْتِعًا مع
امرأة لا تحلّ لك، هناك مَن يُدير حديثًا مُمْتعًا مع زوْجتك ! شيءٌ دقيق
جدًّا، فقول النبي عليه الصلاة والسلام: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
(( كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنَ الزِّنَا
مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ فَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ
وَالْأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الِاسْتِمَاعُ وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلَامُ
وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَا وَالْقَلْبُ
يَهْوَى وَيَتَمَنَّى وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ وَيُكَذِّبُهُ ))
(رواه مسلم)
كتب عليه أن ينال نصيبه من عقوبة الزنى في كلّ درجاته.
الله عز وجل لم يقل: لا تزنوا، ولكن قال: ولا يزنون ! فالتركيب الخبري أبلغ من التركيب الإنشائي، فالله تعالى قال:
﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾
(سورة البقرة )
لـو أنَّ الله عز وجل قال: يـا أيتها
الوالـدات أرضِعن أولادكنّ حولين كاملين ! ترضِع أو لاترضِع، أما الأولى
فتعني أنَّه من شأن الأم أن ترضع ابنها وهذه أبْلغ، لـو أنّ الله عز وجل
قال: لا تزنوا ! لكن الله تعالى قال: ولا يزنون، فَمِن صفات المؤمنين
أنَّهم لا يزنون، فالتركيب الخبري يأتي في القرآن أحيانًا في مجال التركيب
الإنشائي كما قال الله عز وجل:
﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾
(سورة آل عمران )
هذا تركيب خبري يُفيد أنَّه ينبغي أن يكون الحرمُ آمنًا، أي اجعلوه آمنًا والله تعالى قال:
﴿ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ﴾
(سورة النور )
ألا يوجد زوج سيئ لِزوجة جيِّدة والعكس، فأين
الآية ؟! فهذه الآية لْيسَت حكمًا بل تكليف ؛ أي احْرصوا على تزويج
الطِّيبين من الطَّيِّبات، لذا قال الله عز وجل: ولا يزنون، هذه أبلغ ألف
مرَّة من أن ينهانا الله عز وجل عن الزنى، لأنّه ليس من شأن المؤمن أن يزني
لا بِعَينيه ولا بأُذنه ولا بلسانه، ولا بِفَرجِهِ، والإنسان قبل أن يرتكب
الكبائر هو بِخَيرٍ شديد، قال تعالى:﴿ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا(31)﴾
(سورة النساء )
والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما، ورمضان
إلى رمضان كفارة لما بينهما ما لم تُرْتَكب الكبائر، فالحديث في درسنا ليس
فيه إلْزامٌ بالزنى ولكن إلْزام بِتَحَمُّل عُقوبة الزِّنى.
أحدهم قال للنبي عليه الصلاة والسلام: عِظني ولا تُطِل..." إذا اختَرت أن
تفعل المعاصي حينها اسْتَعِدّ للبلاء، وأنا أقول لكم هذه الحقيقة: إما أن
تنطلق إلى الله تعالى طائِعًا، وإما أنَّ الله سبحانه وتعالى بِحِكمةٍ
بالغة يحْملك على أن تنطلق !، فانطَلِق طواعِيَةً أكمل وأشْرف من أن تُساق
بالسِّياط، وعجب ربكم إلى قوم يُساقون بالسلاسل، والعقوبات أحيانًا وسائل
من وسائل التَّربيَة.
والحمد لله رب العالمين